الافتتاحية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
في يوم الجمعة ١١ صفر ١٤٣٨هـ الموافق ١١ نوفمبر ٢٠١٦م ودع العالم الاسلامي علماً من أعلام العصر الحديث، الداعية الشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين، حيث وافته المنية بمدينة الدوحة عن عمر يناهز الـ ٧٨ عاماً، قضاها في العلم والعمل والدعوة والإصلاح تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته.
توافدت حشود المشيعين من كل مكان، وأقيمت مجالس العزاء في عدة دول، وتوالت التعازي من جميع الجهات وعلى شتى المستويات، ليس حباً ووفاءً للشيخ فحسب، بل تعبيراً كذلك عن مكانة النهج الذي انتهجه، والقيم والمبادىء التي تمسك بها الشيخ رحمه الله ودعا إليها، في نفوس الجميع.
بكته قلوب الأمة الإسلامية قبل عيونها، وهي تدرك المعنى المأثور عن ابن عباس ومجاهد في الآية الكريمة ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ بأنه موت العلماء والفقهاء. وأن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال ولكن بقبض العلماء.
فالناس كلهم لفقدك واجد في كل بيت رنة وزفير
عجباً لأربع أذرع في خمسة في جوفها رجل أشم كبير
فسبحان الحي الذي لا يموت، و الحمد لله الذي لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، إذ قضى الكتاب أجله، واستوفى صاحبه رزقه وعمله، فاللهم اغفر للشيخ و ارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، واجعل مثواه الفردوس الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واجمعنا به في مستقر رحمتك، بفضلك ومنِّك و عفوك وإحسانك.
رحل الشيخ ولم ترحل مآثره و مناقبه، وآثاره العلمية، وجهوده الدعوية، تاركاً خلفه سيرة عطرة، جديرة بالتأمل والدراسة والتدبر، تزخر بالتجارب المثيرة، والمواقف الفذة، والحل والترحال، كنتيجة للدرب الذي اختار أن يسلكه.
كما ترك للأمة تراثاً غنياً، في شتى المجالات العلمية، والفكرية، والدعوية، والسياسية، ينم عن علم عميق وفهم دقيق، وملكة تميز بها في تحليل الوقائع والأحداث، و تقييم المستجدات، على نحو يجمع بين فقه النص و الواقع، و يوائم بين الأصالة والعصرية، برؤية ثاقبة، و نظرة متوازنة، استرشدت بها الأمة كلما ألمَّت بها ملمَّة.
ومن ذلك دفاعه عن مصادر التشريع الإسلامي في كتاب “دراسات في السيرة”، وتصديه للرافضة في كتابه المشهور “وجاء دور المجوس” الذي بلغ صيته الآفاق، واستنار به خلق كثير، وكذلك تعريته لأهل الغلو على شتى مدارسهم في سلسلة “الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو”، وبيانه للمنهج القويم في الدعوة إلى الله في “منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله” بجزئيه، و التأكيد على واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق، وعدم كتمان العلم المنوط بأهل العلم في “العلماء و أمانة الكلمة”، والتحذير من النفاق والمنافقين في “مساجد الضرار بين الماضي والحاضر”، و التأكيد بالجملة على التحلي بالأخلاق الكريمة و الشيم النبيلة التى أمر بها الشرع في كتابه “أزمة أخلاق”، إلى غير ذلك من المؤلفات القيمة، والكتابات النفيسة، والمقالات، و المواد الثمينة التي يجدها القارىء الكريم في ثنايا هذا الموقع . ولذلك فإن عزاء الأمة اليوم في هذه الأسفار التي نسأل الله تبارك وتعالى أن يبقى أثرها على مر الأزمان وتتابع الأيام.
كذلك، فقد رحل الشيخ بعدما أسس مدرسة رائدة في أرجاء العالم الإسلامي، تمثل أنموذجاً مشرقاً، وكياناً عملياً من كيانات أهل السنة والجماعة، يعكس شمولية هذا الدين لمناحي الحياة، و ينأى عن الإفراط والتفريط الذي أصاب غيره من التيارات، فصار ينسب إلى هذا التيار القاصي والداني من أهل العلم والدعوة ، وكل من عرف بشمولية الفكر، و وسطية المنهج، واستقلالية الرأي.
كما أدرك الشيخ رحمه الله معنى الآية الكريمة : ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ وحقيقة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
فأوصى ذريته بقوله : “أوصيهم بتقوى الله عز وجلَّ في السر والعلن، والتمسك بعقيدة التوحيد، والمحافظة على الجمع والجماعات، والعمل بطاعة الله تبارك وتعالى، واجتناب الآثام والمعاصي، والالتزام بآداب الإسلام، وبرِّ الوالدين، وصلة الرحم، و أن يجعلوا القرآن هاديهم، ومحمداً صلى الله عليه وسلم قدوتهم، وألا يموتوا إلا وهم مسلمون” وأضاف رحمه الله “و أوصي أبنائي بالالتزام بخطي في الدعوة”.
وفي الحث على بذل العلم، ونشر المعرفة، وبيان فضل الكتابة والتصنيف، كان يردد على بنيه قول الشاعر:
الخط يبقى زماناً بعد صاحبه وكاتب الخط تحت الأرض مدفون
لذا، فقد قام أبناء الشيخ ومحبيه بإنشاء مؤسسة تأخذ على عاتقها إنفاذ وصيته رحمه الله بوقف مكتبته الخاصة للنفع العام، والعناية بمؤلفاته، ونشر انتاجه العلمي، والدفاع عن منهجه الذي ظل ثابتاً عليه حتى أتاه اليقين، فكانت (مؤسسة الشيخ محمد سرور زين العابدين ) وهي مؤسسة مستقلة فكرية غير ربحية، مقرها لندن، ورسالتها :
جمع وصيانة وإبراز الفكر التجديدي والمنهج الوسطي الذي سلكه الشيخ محمد سرور زين العابدين رحمه الله في حياته ودعوته ومواقفه السياسية وفي مؤلفاته كلها، وذلك بنشر إنتاجه الفكري والدعوي والسياسي، وحواراته ومقالاته وبياناته، عبر وسائل النشر المختلفة، وتسليط الضوء على إنجازاته ومشاريعه وآماله التي كانت تصب في نهضة الأمة وخدمة منهج أهل السنة والجماعة وتوحيدهم.
ومن أبرز مشاريع المؤسسة الحالية :
- مشروع مجموعة الأعمال الكاملة لمؤلفات الشيخ رحمه الله.
- مشروع الموقع الالكتروني للمؤسسة، وربطه بحسابات لها في وسائل التواصل الاجتماعي.
- مشروع وقف مكتبة الشيخ رحمه الله الشخصية للنفع العام.
- مشروع ترجمة كتب الشيخ رحمه الله إلى اللغات الحية.
- مشروع تشجيع الباحثين للكتابة عن الشيخ رحمه الله.
- وغيرها من المشاريع الأخرى التي هي قيد الدراسة والمشورة.
وتعتبر المؤسسة إطلاق الموقع الإلكتروني للشيخ رحمه الله خطوةً مهمّة في تعريف الناس به، وتقديم إنتاجه الفكري والدعوي والسياسي من خلال كتبه ومقالاته وأبحاثه وحواراته.
وسيتضمّن الموقع سيرته ومسيرته في حياته الدعوية والفكرية ومواقفه السياسية وأثره في حركة الدعوة الإسلامية، وكذلك ما قاله عنه المفكّرون والدعاة ومن عرفه عن قرب وعن بُعد، وما كُتب عنه من مقالات وأبحاث.
ومن خلال محور المكتبة الإلكترونية رأت المؤسسة أن توفّر كتب الشيخ رحمه الله التي يمكن قراءتها أو تنزيلها، ومجموعةً من اللقاءات والحوارات المتلفزة، ومحاور أخرى سيتم تفعيلها تدريجيًّا، وسيتمّ كذلك توفير مواد المحاور الأخرى شيئًا فشيئًا وفق خطة زمنية وبشكل تدريجي.
وبمناسبة انطلاقة هذا الموقع بحلته الجديدة، فإننا نود التأكيد على اهتمامنا البالغ بتوجيهات القراء و نصحهم وإرشادهم لنا فيما يفي بالغرض، ويحقق المقصود، من خدمة تراث الشيخ رحمه الله، وبما يعود على الأمة الإسلامية بالنفع والفائدة إن شاء الله.
وأخيراً فإنه لا يسعنا إلا أن نختم بما كان فقيد الأمة رحمه الله يختم به أعماله، فنؤمن على ما كان يدعو به لنفسه :
“اللهم لا تعذب لساناً يخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدماً تمشي إلى خدمتك، ولا يداً تكتب في سبيلك، فبعزتك لا تدخلني النار”.
اللهم آمين، والحمدلله رب العالمين.