رسالة عيد الميلاد
قام أبطال الجيش الإسلامي في العراق يوم 3/10/2006 بتدمير عربة همفي أمريكية، وكان مما غنموه بطاقة ذاكرة (Flash memory ) تخص الجندي الأمريكي (لي كبندل تكر)، والذي قتل في هذه العملية.
ومما كان مسجلاً على هذه البطاقة الكثير من الصور الشخصية لهذا الجندي، وصور الدورات العسكرية المتخصصة التي حصل عليها، ولكن أهم من كل هذا كانت رسالة كتبها لوالديه بمناسبة أعياد الميلاد القادمة.
وفيها يعبر (لي) عن مشاعره تجاه الحرب وأسبابها ونتائجها. إن هذه الرسالة كما ستقرأ عزيزي القارىء تعكس الروح المعنوية المهزومة التي يحملها الجنود الأمريكان في هذا الوقت، وكذلك سوء أحوالهم من مخدرات وإجرام وغيرها. لن أطيل عليك أيها القارىء الكريم، فالرسالة تتحدث عن نفسها، ولكن لا بد أن أذكر جميع المجاهدين في سبيل الله بالصبر والثبات، فالنصر صبر ساعة، ولا تنسوا قول الله تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104) .
والآن إلى نص الرسالة كما تم ترجمتها، مع تحفظنا على بعض العبارات التي جاءت فيها.
“والداي العزيزان.. يسرني أن أبعث لكم برسالة عيد الميلاد الثالثة. وأتمنى أن تكونوا بسعادة وصحة جيدة.. كم كنت أتمنى لو أنني معكم في هذا العيد كي نكون جالسين حول المدفأة نتجاذب أطراف الحديث على مائدة العشاء حيث الديك الرومي الذي لا مثيل له في تلك الليلة السعيدة.
أتمنى أن تكون رسالتي قد وصلتكم الآن. وكما تعلمون فإن جميع زملائي يبعثون بالتحية لأهلهم في هذه الأيام. ربما تتساءلون هل (لي) بخير؟ وهل يتدبر أمره جيداً في عامه الثالث في العراق؟ في الحقيقة عامي الثالث مختلف كثيراً عن سابقيه، ولا أخفيكم أنني مشتت قليلاً ولا أقوى على التركيز، وقد اشتقت لفلوريدا كثيراً وبلدتي سانفورد، وأفتقد شواطىء فلوريدا الجميلة والناس، وخاصة ساحل فلوريدا الشرقي.
هل تعلمون أنه لا يوجد بحر هنا!! لقد ظننت عكس ذلك، وأنني سأرى المياه الصافية والرمال الصفراء في كل مكان أذهب إليه، فهذا الذي سمعته عن بلاد العرب، ورأيته عند نزولي في الكويت قبل نقلي إلى وحدتي في العراق. لقد ذكرتموني بأيامي الأولى هنا، لقد مر وقت طويل فعلاً.
أذكر أنني سكنت الأيام الأولى في أحد القصور التي كانت ملكاً لصدام، وشعرت أنني أمير فيها، وكان الكل كذلك أيضاً، يا للسخرية !! فالشعور بالسعادة والنشوة أيضاً كان واضحاً في وجه الجميع في القصر، والفندق الذي انتقلت إليه، وكل واحد يُري الآخر التذكارات التي جمعها، كي يرجعها معه شاهداً على بطولته في أرض المعركة.
فمثلاً خوذة لجندي في الحرس الجمهوري، أو مسدس لضابط كبير، أو صورة لصدام منزوعة من أحد أركان القصر. أذكر أن صحفياً أراني رشاشاً مطلياً بالذهب، قال أنه كان أحد مقتنيات صدام الشخصية، وسيبيعه بعد 15 سنة في مزادات نيويورك. وقال لي: إن هناك قطعاً أخرى مع جنود وضباط، واصفاً الموقف كأنهم وجدوا كنز (علي بابا).
كان العمل سهلاً في البداية. وبدا أننا نجحنا في المهمة بسرعة. أذكر أن أحد الصحفيين سألني عن مهامنا في ذلك الوقت، وكانت الإجابة سهلة، حيث كانت مهماتنا كلها “نظيفة” كحراسة الوزارات والبنوك من اللصوص ـ عدا أولئك أصحاب الأسلحة الذهبية وقطع الآثار ـ وكذلك جمع الأسلحة من القواعد والثكنات التي تخلى عنها الجيش النظامي والإشراف على إتلاف الأسلحة وجميع الآليات في مقابر أنشئت لهذا الغرض، وأخيراً متابعة تدريب ضباط وأفراد قوات الأمن الجديدة.
أبي العزيز.. كنت أتساءل دوماً أين تذهب أموال دافعي الضرائب في أمريكا؟ ولما أتيت هنا وجدت الإجابة فوراً، ولكن ما كانت لتقدم لولا تأكد قيادة الجيش من قدرته على هزيمة نظام صدام، لكنهم لم يضعوا في الحسبان ما قد يحصل بعد وقوع الهزيمة.
وعن نفسي بدأت أرى أن هناك مشاكل من نوع ما قد بدأت تقع عندما بدأنا نتعرض لهجمات من مجهولين، ونعمل بقية الأيام في مداهمات للقبض على من يهاجموننا.. أذكر في إحدى الليالي، دخلنا منزلاً، وبدأ زملائي (ماثيو) و (باري) و (دوغلاس) بتحطيم المنزل وضرب صاحب المنزل وابنه الشاب بأعقاب البنادق حتى غابا عن الوعي، لأنهم لم يفهمونا، وأنا واقف لا أستطيع التفكير، واستفقت على صوت زميلي (باري) يقول: يبدو أن العجوز قد مات. وفي النهاية لم نجد شيئاً.
وهكذا كان من الطبيعي أن تزداد الهجمات علينا حتى وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها من المستحيل أن تخرج بعربتك دون أن تتعرض القافلة لهجوم واحد على الأقل. بدأ مسلسل العنف والعنف المضاد. وأقر بأننا استخدمنا القوة بشكل مفرط للغاية، حتى بدأ الناس ينقلبون ضدنا، وبدأت تظهر من قبل جنودنا أثناء المداهمات حوادث السرقة والتحرش والاغتصاب والقتل العشوائي.
واشتد الهجوم علينا كل يوم، حتى أتت أيام لا نستطيع النوم فيها لكثرة قذائف الهاون الساقطة. وأذكر ذلك اليوم عندما طلبوا منا في القاعدة العسكرية أن نذهب إلى إحدى القاعات لحضور اجتماع وتقديم تكتيك جديد سنتبعه في الفترة القادمة. نزلنا، وأنا في الطريق، وجدت (ويلسون) ينظر إلى إحدى عربات الهمفي تساءلت لمإذا؟ ولكن عندما ذهبت رأيت باب الهمفي به بعض الشظايا، وآثار طلقات. قلت له: هيا بنا سنتأخر. دخلنا القاعة، وبدأ القائد يرحب بنا، وكان كل شيء على ما يرام، ولكن بعد حوالي عشر دقائق سمعنا صوت انفجارين متتاليين خارج القاعة، أحدثت حالة من الرعب داخل القاعة، وعندما نظرنا وجدنا أننا نتعرض لهجوم بالصواريخ، وقد أصابت إحدى الصالات وكانت تشتعل وكان هناك بعض الجرحى.
قال لي (ويلسون): هاهم يرحبون بنا أيضاً، ويبدو أن لعنات العراق بدأت. كانت هذه أول مرة أرى فيها شيئاً كهذا. جاء الليل، وكنا جالسين مع بعض الأصدقاء، قال أحدهم: إن أكثر من عشرين جرحوا وقتلوا عندما ضُرب الصاروخان. قلت ياإلهي! مإذا لو كان التصويب أكثر بـ 2 سنتيمتر جهتنا، قد نكون في عداد الموتى. إنه شيء فظيع.
ذهبنا للنوم، قال لي (ويلسون): تخيل لو أننا تعرضنا لهجوم آخر. قلت له: قد تكون هذه آخر نومة لنا. لم أستطع أن أنام هذا اليوم، فكنت أفكر كثيراً في الوطن، وأمي، وصديقتي. لقد كنت أعمل جيداً وكانت حياتي هادئة، لمإذا أنا هنا؟ فكرت طويلاً لأجيب على هذا السؤال! إلى أن نمت من كثرة التعب. في اليوم التالي، أوكلت لفرقتنا مهمة حراسة قافلة لشركة (هاليبرتون). خرجنا من القاعدة، وكانت هذه أول مرة أرى فيها الشوارع في العراق. خرجنا، واعتليت برج الهمفي، وصلنا إلى القافلة القادمة من الأردن. كانت الشاحنات كثيرة جداً. وكنا نمشي بجانبها لنحميها فنبعد سيارات العراقيين عن القافلة.
سرحت قليلاً وفكرت: هذه قافلة (هاليبرتون) و (كي بي آر) هذه الشركات لها عقود بمئات الملايين مع الجيش ونحن هنا لنحميها ونأخذ الضربات بدلاً منهم. إنها (هالبيرتون) التي يملكها نائب الرئيس (ديك تشيني). ياإلهي! إنهم يرسلوننا للحرب ثم يستثمرون أموالهم فينا.
ظهرت فجأة سيارات للعراقيين، ووجدت آمر المجموعة يطلب مني أن أشير إليهم لكي يخرجوا من الطريق، فقطع تفكيري وأشرت لهم وخرجوا من الطريق. وبعد بضع دقائق، جاء صوت انفجار من الخلف، ونظرت وإذا بها إحدى الشاحنات تحترق. ياإلهي! كان يصرخ أحد أفراد المجموعة قائلاً: العبوات الناسفة، هذا الرقم الصعب في العراق. بعد ثوانٍ فوجئنا، بوابلٍ من الرصاص وقذائف الآر بي جي وعبوة ناسفة أخرى انفجرت. يبدو أننا علقنا في فخ.
وبدأت في إطلاق النار جهة المسلحين الذين لم نكن نراهم. فهم يضربون ولا تعرف من أي مكان يضربون، ولكن يبدو أنهم رحلوا، لأن الضرب انتهى، ولكن احترقت من القافلة شاحنتان. من المفترض أن هذه العبوات كانت تصيبنا نحن، ولكن شكراً للرب، انتهت مهمتنا وعدنا لقاعدتنا.
وهذا يومٌ آخر حزين رأيت فيه الموت مرة أخرى. إلى متى أبقى في هذا الجحيم؟ لمإذا نحن هنا؟ حتى الناس لا يحبوننا، ولا يرغبون في وجودنا. كثير من الأطفال يرشقوننا بالحجارة، لم نجد أسلحة الدمار الشامل التي تحدثوا عنها. بل حتى إن قواتنا استخدمتها ضد المدنيين في الفلوجة. وها هم قبضوا على صدام، ولكن الهجمات تزداد علينا يومياً.
وها هم أبناء أمريكا يتساقطون كل يوم. كل واحد منهم له أهل وأصدقاء وأطفال ينتظرون عودته. فقتل منا في أول ثلاث سنوات 2314 جندياً وفي نفس الفترة قتل منا 1864 في فيتنام.
ألا نتعلم من أخطائنا؟ بدأت أندم على دخولي الجيش وتذكرت ذلك اليوم السيء، الذي جاءنا فيه مندوبون عن وزارة الدفاع لتجنيدنا، وكيف أنني اقتنعت بما قالوه لي. سمعت أن البنتاغون ينفق 2.5 مليار دولار سنوياً ليجندنا. يصنع لنا ألعاباً نلعبها في الكمبيوتر ثم بعد عدة شهور يرسلوننا لممارستها على أرض الواقع. ياإلهي! ألم يكن من الأفضل أن تذهب هذه الأموال لنيو أورلنيز ـ حيث ضرب إعصار كاترينا ـ أو حتى تذهب للفقراء في الجنوب أو لمكافحة الإيدز؟ ولكن كلام الرجل كان مليئاً بالوعود. فالمنحة الدراسية، والتدريب والعمل، وكل ما قالوه أغرانا لنلتحق بالجيش، ولكن ها أنا ذا بالعراق أنام وأكبر أحلامي أن أرى شمس يوم جديد، ولا تُنهي حياتي شظية حقيرة من قذيفة هاون.
ثم أنا لم آت هنا للمشاركة في إحداث الدمار، ظننت أننا سنساعد هذا الشعب على بناء بلده من جديد، ولكن لا أسمع أحداً من الضباط الكبار أو حتى الساسة في وسائل الإعلام يتحدثون عن الإعمار، ثم إنني أصلاً واحد من المعارضين للحرب. ليت تمسكي بموقفي كان أشد من ذلك.
لم أعرف أن المجيء هنا سيغير من مخططاتي المستقبلية. فإن ما يحدث لي الآن لم يكن في الحسبان، ولم أتصور أنني سآتي لأفقد حياتي ببساطة. لا أظن أن ما يريده أي أمريكي أن يسافر بعيداً ليفقد حياته من أجل لا شيء. لقد كان المستقبل أمامي وقد خططت له بشكل مختلف، ولا أدري بمإذا سينفع شعبي مجيئي إلى هنا؟ بل إن معظم سكان بلدتي لا يعرفون أين تقع العراق على الخريطة.
لمإذا لا ندع هؤلاء وشأنهم؟ فإن كان صدام ديكتاتوراً فجارنا كاسترو ديكتاتور أيضاً. ثم أين أسلحة الدمار الشامل المكدسة في العراق؟ ذهبت مع الجيش إلى العراق لأضمن عدم استخدام هذه الأسلحة القذرة ضد مواطني بلدي، ولكن لم نجد شيئاً. فلمإذا نحن هنا إلى اليوم؟ هل تخدعنا حكومتنا؟ هل يخدعنا رئيسنا؟
ياإلهي! لن أنام اليوم أيضاً. فلقد انطلقت صفارات الإنذار وطلبوا منا دخول مخابئنا للنوم في الصالات المحصنة، لأن هناك بعض الإطلاقات. في النهار، دوريات طوال اليوم، وعبوات ناسفة ورصاصات من أماكن غير معلومة، وبعد كل هذا التعب البدني والنفسي لا نستطيع حتى أن ننام ساعة من الليل. انتهى الإنذار ولحظات القلق. واستطعت أن أنام عدة ساعات استعداداً ليوم جديد مليء بالمفاجآت.
فسأحاول غداً أن لا أكون الرامي وأنزل من برج الهمفي حيث أننا هنا بإمكان الواحد منا أن يعفي نفسه من وردية الحراسة الليلية ببضعة دولارات، وإن دفعت أكثر يمكن أن تنزل من برج عربة الهمفي في الدوريات لكي لا تصبح فريسة سهلة للقناصة وشظايا العبوات.
وتبقى سجائر الماريجوانا العملة الأصعب القادرة على شراء وتغيير أي شيء. فالمخدرات هذه سلعة رائجة جداً، ولدينا من يدخلها للقاعدة بشكل منظم. وتجارتها مزدهرة، وتتنازع العصابات على احتكار سوقها.
نعم العصابات، لا تستغربوا تماماً، كما تسيطر عصابات اللاتين في فلوريدا على سوق المخدرات والجنس. مهجعي أنا مثلاً تابع لعصابة (GDN ) ولا يسمح لأحد من العصابات المنافسة بالدخول، وعلى أي حال فحظي جيد، فالكل هنا يحبون (GDN ) ويحترمون العصابة الحاضنة لها ( (Falk Nation ) ويخافون منها.
أشرقت شمس يوم جديد، وخرجنا إلى المدينة في دورية معتادة. كان يوم الجمعة. وجدنا زحاماً عند أحد المساجد، كانوا يتظاهرون وغاضبون جداَ ويرفعون لافتات كتب عليها بالإنجليزية، ارحلوا إلى بيوتكم نحن لا نريدكم في العراق. وتذكرت وقتها خروجي في المظاهرات ضد الحرب وكنت ضمن الـ 11 مليوناً الذين تظاهروا في أمريكا ضد الحرب ولم يستمع لنا أحد، ونحن مهد الديمقراطية، وقال عنا الرئيس أننا مجموعات معينة لها أهداف معينة.
فنظرت إلى حال هؤلاء المتظاهرين والذين من المفترض أنهم سعداء، الابتسامات تعلوا وجوههم ويرموننا بالزهور والحلوى كما قال الرئيس، ولكن عندهم حق فيما يفعلون. فقد وعد الرئيس العراق بأنه سيكون أفضل دولة في المنطقة، والعالم سيصبح أكثر أمناً وأن العراقيين سينعمون بالديموقراطية والحرية التي حرموا منها وأننا سنعيد بناء بلدهم، ولكن ما حدث عكس ذلك تماماً. فلا أمن اليوم لأي مواطن، وحاجات الحياة الأساسية غير متوفرة، بالإضافة إلى ما يفعله الجنود المستهترون بالعراقيين من تعذيب وإذلال، مثل الذي رأيناه في أبي غريب، والذي هو بعض الحقيقة.. ياله من عالم قبيح.
في طريق عودتنا رأيت الموت مرة أخرى، عندما انفجرت عبوة ناسفة في الهمفي التي أمامنا ورأيتها تطير وتنقلب على جانبها، وقتل أحد الجنود وجُرح الباقون. قلت: ياإلهي! مإذا لو كانت عربتنا تقدمت قليلاً بدلاً من هذه العربة التي ضربت. ياإلهي! إنه الجحيم. فإنك إن لم تصب وتمت فأنت تعيش وتنتظر أن يأتي دورك. ويكفي هذه (الفوبيا) التي تعيش بها مؤذية أكثر.
عدنا إلى قاعدتنا المشؤومة، وكان في هذا اليوم تأبين للجندي المقتول. وقفنا كلنا داخل القاعة في حالة حزن شديد. حذاء الجندي وبندقيته مقلوبة معلق عليها خوذته التي لم تحمه من الشظايا. خرج بعض زملائه يتكلمون عنه. كان تقريباً في مثل عمري. كان متزوجاً وعنده طفل ولد منذ شهر فقط، ولم يره، ولن يراه أبداً.
هذا الجندي لا يعني إلا رقماً يضاف إلى الآلاف في سجلات القتلى، ولكنه يساوي كثيراً عند أناس آخرين، وبالأخص عند هذا الطفل الذي سيعيش حياته كلها مفتقداً لأبيه. وكل هذا من أجل السيد الرئيس.
في هذه الليلة وكالمعتاد، انطلقت صفارات الإنذار لتعلن عن ليلة جديدة مليئة بالقلق. هرع الكل إلى المخبأ. لا راحة في خارج القاعدة، ولا حتى داخلها. تساءلت: ما هؤلاء المتمردون؟ لا يملون أبداً، منذ أكثر من ثلاث سنوات وكل يوم يزدادون شراسة. ولمإذا لم نقض عليهم إلى الآن؟ قد يكون السبب كره الناس لنا، فيدعمونهم. ولكن هؤلاء متمردون وإرهابيون يكرهون الحرية والديمقراطية، ويريدون إيذاء العراقيين وقتلهم. هذا ما قاله القائد. ولكن لمإذا ما زالوا يقاتلون إلى الآن؟ لا أحد ينكر أننا ارتكبنا فظائع في هذا البلد. ووعدناهم بالكثير، ولم نقدم لهم أي شيء. جعلنا بلدهم أخطر مكان في العالم.
إنهم يستخدمون تكتيكات مختلفة، وهناك عشرات من الطرق التي يمكن أن تخسر حياتك بها: مقطعاً بعبوة مملوءة بالشظايا، مهشماً في عربة همر، محاصراً داخل دبابة ابرامز مشتعلة، موت سريع بطلقة قناص، صواريخ على سريرك في المهجع، عملية انتحارية، والأكثر إثارة أنهم قد يسقطوا طائرتك وتهوي بها إلى الأرض.
وطني أمريكا كانت محتلة يوماً من الأيام. وارتكب البريطانيون فظائع في حقنا. مذبحة بوسطن ـ هكذا كانت تسمى في مادة التاريخ ـ قتلوا خمسة مدنيين، وبدأت بعدها الثورة الأمريكية واستمرت المعارك 8 سنوات بين الجيش البريطاني وجيش الكونتيننتال، وظهر أبطال مثل (جون بوا جونس) و (جورج واشنطن) ونلنا عندها استقلالنا.
يا لسخرية القدر! نحن إلى الآن قتلنا أكثر من 700 ألف عراقي بشكل مباشر وغير مباشر بسبب الفوضى، ولا نريدهم أن يقاوموننا! هذا شيء آخر يؤلمني فأشعر دائماً بأني في موقف الظالم لا المظلوم، ولكن إن لم أقتل سأقتل. ولكن لمإذا من البداية كل هذا؟ أما من ظننا أنهم سيعجلون بخروجنا من العراق، أقصد الشرطة العراقية والحرس الوطني، فإنهم فاشلون وفاسدون للغاية، لا نستطيع الاعتماد عليهم في شيء ولا يستطيعون القيام بأي مهمة دون تدخلنا وتوجيهنا المباشر. بل حتى أنهم لا يكترثون بحياة المواطنين وكأنهم غير عراقيين، يعذبونهم أكثر مما قد نفعل نحن، وفي نقاط التفتيش يتعاملون مع بعض الناس بوحشية شديدة، بالإضافة إلى أنهم أغبياء وعديمو الفائدة.
انتهى يوم آخر من أيامنا الحزينة في العراق، وطلعت شمس يوم جديد. كنت أشعر في هذا اليوم بشوق كبير لك يا أمي وتذكرت أيام عيد الميلاد وهدايا سانتاكلوز وبقية أهلي، أتمنى أن أعود لهم قريباً، ولا أرجع ثانية. أشعر أنني (تشارلي شين) أمثل دور (كريس) في فيلم (بالتون). لأن كلانا ينحدر من عائلة غنية، ومثقفة وراقية. وكلانا ذهب إلى الحرب معتقداً أنه البطل مخلص العالم وكلانا أحبطته الحقائق وأتمنى أن أخرج بسلام في النهاية مثل (كريس).
أشعر فعلاً لو أنني مع تلك السرية في الفيلم، أو بكلمات أصدق أن الجنود خرجوا من الفيلم ويمارسون الأدوار على أرض الواقع في العراق، لأن نفس الأحداث تتكرر: المجزرة في القرية، والخلافات داخل الوحدة، وكل يوم نفقد واحداً من الرجال، والمخدرات تحت خوذة كل جندي. ما نفعله هنا شيء مخجل. أفعالنا مخزية ونحن عار على الحرية والأخلاق.
أصبحت الآن أكره الناس، والناس أيضاً يكرهوننا بشدة، ويقذفوننا بكل ما لديهم، وفوق كل شيء أكره نفسي، وأخاف أن أعاني من تدهور نفسي وأصاب كمعظم الذين عادوا، وأرتكب جريمة كتلك التي قام بها (اندريس رايا) ـ أحد المشاركين في معارك الفلوجة حيث قتل شرطياً وجرح آخر ـ في كاليفورنيا، أو أقتل أحد أفراد عائلتي وأقتل نفسي مثل (ستيفن شيروود) بعد أن عاد من العراق أو حتى انتحر مثل المئات هنا.
فلمإذا أموت من أجل مصالح شخصية واستنتاجات كاذبة ووعود كاذبة؟ أين المنحة الدراسية والأموال التي وعدوني بها؟ هل سأحصل عليها في الجحيم؟ أمي العزيزة.. أهلي جيراني وأصدقائي الطيبين، كم كنت أتمنى أن أكون معكم في هذا العيد.. زملائي (كريستوفر)، (باري)، (ماثيو)، (تشاد) و (دوغلاس) سأتذكر أوقاتنا الجميلة معاً، ولا تلحقوا بي، وتحركوا بسرعة لإخراج أنفسكم من هذه الورطة، لأن أحداً لن يخرج منها، لذا أتمنى أن تعملوا بجد حتى لا يفقد المزيد من الأهل أبناءهم وحتى لا تفجع المزيد من الأمهات بأولادها والأطفال بآبائهم.
أخيراً يؤسفني أن أعيد ذكر الكلمات الحكيمة التي قالها صاحبنا (كريس) أثناء مغادرته فيتنام. لأن هذا يثبت أننا لم نتعلم شيئاً من تجربتنا المريرة هناك، ولكن ربما تجد هذه الموعظة من يعمل بها:” اعتقد أننا لم نكن نحارب العدو، بل كنا نحارب أنفسنا، والعدو في داخلنا. الحرب انتهت بالنسبة لي، لكن سأكون هناك دائماً”.
لي كبندل تكر